ماهو الإنتاج الاجتماعي للموئل؟

"الإنتاج الاجتماعي للموئل" مصطلح دولي يشيع استخدامه في أمريكا اللاتينية للإشارة إلى العملية والمحصلة الناجمة عن عمل أفراد المجتمع المحلي بصورة جماعية على تحديد الظروف المحيطة بالبيئة التي يعيشون فيها. حيث تعد تلك العلاقات المتضمنة في إنتاج البيئة المعيشية في المجتمعات المفقرة والمهمشة ضرورية للعيش والتنمية والرخاء. ومن ثم فإن الإنتاج الاجتماعي للموئل يمثل عملية تنمية تشاركية يمكن أن تحدث – بل هي بالفعل- تحدث في كل مكان.

وكثير من التجارب التي تعتبر اليوم "إنتاجاً اجتماعياً للسكن" أو "للموئل" على سبيل الشمول هي في الحقيقة بدائل شائعة لسياسات الإسكان الفاشلة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.[1]  وهو، أي الإنتاج الاجتماعي يتحقق على أرض الواقع عندما يبادر أفراد المجتمع المحلي بطرح حلول للمشاكل المشتركة التي يواجهونها في مجتمعهم المادي، وقد يتم ذلك بمشاركة مجموعات غير رسمية أو منظمات محلية أو حتى بعض الفاعلين من خارج المجتمع المحلي من أمثلة المنظمات غير الحكومية أو الممولين أو شركات القطاع الخاص أو الجمعيات والنقابات المهنية أو الدوائر الأكاديمية أو المؤسسات الحكومية أو بعض مما سبق مجتمعين، ولكن بالرغم من ذلك تظل إرادة الناس وقدراتهم هما المحرك الأساسي للإنتاج الاجتماعي والتي يشار إليها دائماً بصفتها المكون الأساسي للحركات للحركات الاجتماعية.

وكثير من خبرات الانتاج الاجتماعي، مثلها مثل الحركات الاجتماعية عموماً، تبدأ كتحركات ومبادرات فردية أكثر من كونها برامج أو مشروعات متعددة الأطراف ومنظمة. ومع ذلك، فإن الإنتاج الاجتماعي للموئل لا يصبح ظاهراً إلا مع تضافر الجهود والاهتمامات التي تعكس الصفة الجماعية والحاجات الخاصة بجماعة أو مجتمع ما. ومن هنا، من بين التعريفات المقترحة للإنتاج الاجتماعي للموئل تعريف يشدد على الخواص الاستراتيجية التخطيطية والتشاركية والتي تشتمل على:

  • مؤيدون فاعلون عازمين على تحقيق الترابط مع أشخاص أخرين في عملية تخطيطية مرنة،
  • عملية صنع قرار تشاركية تتضمن جميع الفاعلين،
  • تشخيص المشكلات بالاستناد إلى تعبير موحد أو متوافق عن الحاجات،
  • مشاريع تعبر عن شعور وفهم جماعي لما هو ممكن أو متاح،
  • عمليات لإرساء التوافق وحل الخلافات،
  • بناء وتنفيذ جماعي لخطط التحرك. [2]

ومن الناحية الإقتصادية، يتضمن الإنتاج الإجتماعي اعتماد أفراد المجتمع المحلي على أنفسهم وبعضهم البعض بغرض الوقوف على رأس المال الاجتماعي  بوصفه من الأصول التنموية ثم العمل على استغلاله وزيادته. وتتجلى عمليات الإنتاج الإجتماعي ومخرجاته على الرغم من نقص تركز رأس المال فيما يتعلق بالتمويل المحلي، بل ربما تتجلى بسبب ذلك، ويتحقق الإنتاج الإجتماعي عندما يعي أفراد المجتمع المحلي أن رأس المال النقدي متركز في مكان آخر مثلما حالت الأمور إلى ذلك بشكل متزايد في عالمنا الذي يدفع بشدة نحو العولمة.

ومن ثم فإن عمليات الإنتاج الاجتماعي للموئل تعتمد على إيجاد أفراد وشركاء من داخل المجتمع المحلي يسهمون بعملهم ووقتهم أو بتوفير المواد أو المال اللازمين أو كلاهما (على سبيل المثال من خلال برامج التوفير) في بناء أصول مجتمعية في شكل مساكن أو بنية تحتية أو خدمات أو برامج تدخل تحسينات على البيئة أو إنجازات أخرى تعود بالنفع على المشاركين في العمل أو القائمين بالمبادرة على المستوي المحلي.

 

يتضمن الإنتاج الاجتماعي للموئل التعرف على العلاقات القائمة فى إطار المجتمع المحلي (رأس المال الإجتماعي) والعمل على استغلال هذه العلاقات وتطويرها، كما يشمل أيضاً مخرجات هذه العملية. وقد يعني تحريك هذه العلاقات الإنتاجية أو حفزها التعرف على المجموعات القائمة بالفعل سواء من النساء أو الرجال أو الطلبة أو أعضاء النقابات أو ربما من الصيادين أو العائلات الممتدة أو أصحاب الدين الواحد أو النقابات المهنية أو غير ذلك من المجموعات التي قد تيسر عملية الوقوف على رأس المال الإجتماعي واستغلاله والبناء عليه وزيادته من تحقيق النتائج المرجوة. وعادة ما تتسبب عملية الإنتاج الإجتماعي وما ينتج عنها من مخرجات في تحقيق تحول إجتماعي نحو الأفضل ودرجة أكبر من المشاركة، بحيث تُضّمن كل قطاعات المجتمع المحلي بشكل أكثر تكافئاً، ونجد فيها رجالاً ونساءًا وشباباً وأطفالاً يتعاونون مع المسنين والمعوقين والأقليات وبعضهم البعض فى التخطيط والتنفيذ والصيانة. وبهذا يصبح الإنتاج الإجتماعي بمعنى ما "وصفة سحرية" لتحقيق التنمية المستدامة.

من منظور أخر، يعنى الإنتاج الإجتماعي التحرك بشكل جماعي نحو تلبية الاحتياجات الإنسانية، وبالتالي نحو احترام الكرامة البشرية والعدل كحقوق إنسانية. وينبثق بعد حقوق الإنسان للإنتاج الإجتماعي بوعي أفراد المجتمع بما هم مخولين به فعلياً من حقوق يمكن المطالبة بها لأنفسهم ولغيرهم لا بوصفها امتيازات تمنح للبعض دون الأخر. ومن منظور حقوق الإنسان، فإن الإلتزامات الواقعة على الدول إثر تصديقها على معاهدات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقوانين المحلية المتسقه معه تحتل موقعاً جوهرياً في الإنتاج الإجتماعي للموئل. وتتضمن حقوق الإنسان حق الجميع في التمتع ببيئة معيشية نظيفة، والإقامة في مسكن ملائم، والاستفادة من توزيع الأرض واستخدامها بشكل منصف، والحصول على ما يكفي من غذاء ومياه، والسكن في مكان بحيث يمكن منه الوصول إلى مصادر كسب الرزق بشكل معقول، كما تتضمن أيضا الأمن الشخصي، والحماية ضد الإخلاء القسري، والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على مساحة عيش المرء، والمشاركة فى التخطيط البديل كوسيلة للتأكيد على الحق في البقاء والحصول على اعتراف رسمي بالإضافة إلى الحصول على معلومات يمكن التعويل عليها من أجل تحقيق كل ما سبق. وتبرز المساواة فيما يتعلق بالنوع الإجتماعي هنا كوسيلة في عملية الإنتاج الإجتماعي وكهدف له في نفس الوقت.    

وعند النظر في مزايا الإنتاج الإجتماعي، تطرح العديد من الجوانب الأخري نفسها متضمنة على سبيل المثال لا الحصر الأبعاد النفسية المتعلقة بتحسن الدوافع وزيادة تقدير المرء لذاته بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية التي ترد إلى المجتمع حقه في عرض انتاجه الفني والتعبير عن جملة النماذج السلوكية المتغيرة، أو الإبداعات الجمالية أو المعتقدات أو المؤسسات أو مخرجات أخرى لعمل الأنشطة الجماعية. [3] ويتضمن البعد السياسي قيام أفراد المجتمع بمطالبة السلطات ذات الصلة بتيسير اتخاذ القرار بشكل قائم على المشاركة وتيسير العمل الشعبي أو على الأقل عدم الوقوف في سبيل تحقيق ذلك. وبالطبع يتصل الحق في التنمية (وهو المكون الرئيسي لكافة حقوق الإنسان الفردية منها والجماعية) بطبيعة الحال بأساس عملية الإنتاج الإجتماعي سواء كان ذلك بدعم ومشاركة من مؤسسات الحكومة وبرامجها وسياساتها وموازناتها أم كان ذلك بدونهما.  

واننا لنجد مصدر الخطوط الإرشادية الخاصة بما يفترض أن يكون عليه شكل الحكم المتحضر في القانون الدولي العام الذي يدعو الدول إلى احترام حقوق الإنسان والدفاع عنها وتعزيزها وإنفاذها، بما في ذلك الحق في الحصول على مسكن ملائم بوصفه حقا من حقوق الإنسان. ويعني ذلك أن الدول والحكومات ملزمة بالعمل على الدفع بالإنتاج الاجتماعي من خلال السياسات والبرامج والمؤسسات والتشريعات والموازنات ومتنوع من الخدمات، كما انها ملزمة أيضا بما يقابل هذا الإلتزام من وجوب الامتناع عن الإتيان بالأفعال التي تعوق الإنتاج الاجتماعي مثل الطرد القسري ومصادرة الأراضي وقمع المدافعين عن حقوق السكن والتمييز والفساد وخصصة السلع والخدمات العامة وغير ذلك من ضروب الانتهاكات. إن الإنتاج الاجتماعي فيما يتعلق بالإسكان يصل بقدرة الناس على تحسين ظروفهم المعيشية إلى أعلى مستوياتها ولكنه في الوقت نفسه لا يعفي الدول والحكومات من الالتزامات الواقعة عليها نحو المواطنين والمقيمين على أراضيها وفقا للمعاهدات التي صدقت عليها. (لمناقشة الصلة بين الإنتاج الاجتماعي للموئل والحق في السكن الملائم اضغط على وصلة "الإنتاج الاجتماعي للموئل والحق في السكن الملائم" أعلى الصفحة.)

وتتضمن آثار السياسات الليبرالية الجديدة والعولمة الاقتصادية خصخصة السلع الاجتماعية وتركز رأس المال في أيدي حفنة قليلة في المجتمع و تقاعس الدول والحكومات عن تقديم الخدمات العامة وزيادة مستويات الفقر، مما يزيد من أهمية  الإنتاج الاجتماعي بوصفه مجموعة من الاستراتيجيات العملية التي التي يمكن استخدامها  يوما بعد يوم في سياق الكفاح نحو تحقيق العدالة الاجتماعية على الصعيدين المحلي والعالمي. وفي هذا الربط اكتسب الإنتاج الاجتماعي للموئل معنى إضافي.  

قد يتضمن الجانب الاجتماعي لإنتاج الموئل خاصية شعبية أو غير رسمية في الأساس، خاصة مع الاستخدام المعتاد الموجود في سياق المجال بأمريكااللاتينية. ويفترض أيضاً أنه في عملية الإنتاج الاجتماعي للموئل أن يدرك الناس كذلك نوع من "التوزيع الاجتماعي" للسلع والقيم التي ينتجونها. وهذا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين يهبون وقتهم، وعملهم وموادهم، هم كذلك المستهلكين المباشرين للمنتج. وفي إطار نظرية علم الاجتماع حول العلاقات الإنتاجية فإن هذا يعني أن عملية الإنتاج الاجتماعي للموئل لا تبصر أجزاء أخرى دخيلة تجمع "فائض القيمة" من المنتج في حالة تبادله كسلعة. بهذا المعنى للإنتاج والتوزيع "الاجتماعي" للموئل، فإن ثمار الجهود الجماعية في تحسين الوسائل ومساحة العيش وظروف المعيشة وأيضاً في ظل استمرار الرأسمال الاجتماعي المدعم كمقومات كاملة في المجتمع المنتج

الإنتاج الاجتماعي للموئل في الشرق الأوسط وشمال افريقيا

وبعد الانخراط لفترة طويلة في الجوانب العملية والممارسة الواقعية في هذا المجال، طور التحالف الدولي للموئل مشروع "الإنتاج الاجتماعي للموئل" بالتعاون مع مؤسسة InWEnt  عام 2003 كمبادرة لحل مشكلة السكن ولجمع مثل هذه الاستراتيجيات ومشاركتها وتبادلها على المستويين الإقليمي والعالمي. وإصدار شبكة حقوق الأرض والسكن الذي يأخذ عنوان "ملامح حركة اجتماعية" الذي جاء توثيقاً لحالات من الإنتاج الاجتماعي للموئل في الشرق الأوشط وشمال افريقيا يحمل بين طياته دروساً كثيرة. [4]

يـعد المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط/شمال آفريقيا من أكثر المجتمعات المدنية إنعزالاً بين الأقاليم الأخرى، وخاصة فيما يتعلق بالخبرة العالمية للحركات الاجتماعية التي أصبحت محددة بشكل أكثر مع الإنتاج الاجتماعي للموئل. وهناك حاجة للبحث في اسباب مثل هذه العزلة النسبية  في منتديات أخرى. ويكفي القول هنا أن ليس من بين هذه الأسباب أى سبب وجيه حيث تميل هذه الأسباب إلى خلق نبوءة تحقق نفسها بنفسها مفادها أن هذا الإقليم ليس لة إلا القليل من الشركاء ذوى التفكير المماثل وانه على اتصال أقل بالحركات الإجتماعية على مستوى العالم. وبينما تحتوى المقولبات في العادة على ذرة من الحقيقة، إلا أن الحركات الإجتماعية التى لا يتم الإخبار عنها أو توثيقها كما ينبغي والدول التسلطية في الوحدة الثقافية التي يطلق عليها الشرق الأوسط/شمال آفريقيا تكتسي بمظهر جديد على صفحات ملف الإنتاج الاجتماعي للموئل. وبقدر ما تساهم الحركات الاجتماعية في العملية الديمقراطية، فإن هذه الحالات- وحالات أخرى تبين أن الطبيعة الخاصة بالعملية الديمقراطية والعملية الإنسانية للديمقراطية لا تعتمد بالضرورة على نماذج من الخارج.

في مايو/آيار- يونيو/حزيران من 2004 عقدت شبكة حقوق الأرض والسكن التابعة للتحالف الدولي للموئل ورشة إقليمية بحضور الأعضاء وفاعلين آخرين بالإنتاج الاجتماعي للموئل من خلال المكتب التنسيقي بالقاهرة. ولقد حضر هؤلاء المشاركون، إضافة إلى المجموعات المتزايدة من المشاركين الآخرين، بعدد متنوع من الخبرات التي لا تقبل التعميم.  

وتتضمن خبرات الإنتاج الاجتماعي بمصر والعراق والأردن ولبنان والمغرب وإسرائيل/فلسطين وسوريا التي تم جمعها في هذا الكتاب مجالات الصرف والحفاظ على البيئة وإغاثة اللاجئين ورفع مستوى الأحياء الفقيرة أو العشوائيات في مجالات الخدمات المقدمة. ويجرى ذلك بالتعاون مع الدولة أو بالعمل في مواجهتها وفقا للظروف المحلية. وعلى أية حال، تكشف لنا كل من هذه المقتطفات التطبيقية للعمل الفعال الذي قام به أفراد المجتمع المحلي على أرض الواقع عن دروس مهمة حول طبيعة الدولة المعنية، متضمناً ذلك امكانية تعاوت المجتمع المدني مع السلطات المحلية والمركزية. وفي منطقة تعاني إلى هذا الحد من الاستعمار المستمر وحروب العدوان والتيارات المحافظة وسوء توزيع الموارد، فإن الرسالة الجوهرية التي تقدمها مجموعة الخبرات الحالية حول الإنتاج الاجتماعي للموئل في منطقة الشرق الأوسط/ شمال آفريقيا هي نغمات رنانة من الأمل والتشجيع.


[1] See Eike Jakob Schultz, “Stones in the Way: On Self-determination in Housing in Times of Globalization,” Trialog: A Journal for Planning and Building in the Third World, no. 78 (March 2003), pp. 57; Gustavo Romero, “Social Production of Habitat: Reflections on Its History, Conceptions and Proposals,” Trialog, op cit., pp. 815.

[2] Adapted from Gustavo Romero, op cit., p. 15.

[3]انظر المرجع إلى الإنتاج الاجتماعي للثقافة أعلى الصفحة، في الجزء الخاص بـ "المفهوم والتاريخ."

[4] ملامح حركة اجتماعية: الإنتاج الاجتماعي للموئل في الرق الأوسط وشمال افريقي، الجزء الأول، (القاهرة: التحالف الدولي للموئل-شبكة حقوق الأرض السكن، 2004).