لايزال يتعرض سكان منطقة عفرين، شمال غربي سوريا، للعديد من الانتهاكات الجسيمة، خاصة مع سياسات العسكرة التي تفرضها فصائل الجيش الوطني المدعومة من الحكومة التركية على عفرين وريفها، عقب اجتياح الجيش التركي وتلك الفصائل المسلحة المدينة والقرى المحيطة بها، في يناير/ كانون الثاني 2018.
وتمارس تلك الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا،إجبار أصحاب مزارع الزيتون في عفرين، وهو المحصول الرئيسي للسكان في توفير سبل المعيشة، على دفع إتاوات غير قانونية وباهظة، خاصة في موسم الحصاد، أو سيتم مصادرة الأراضى واعتقال أصحاب تلك المزارع، في حالة العجز عن سداد تلك الإتاوات، ولا سيما من كانت وثائق ملكية أرضه باسم أحد أفراد العائلة والذين يعيشون خارج منطقة سيطرة الجيش الوطني، وقد تشكل تلك الممارسات جريمة حرب من قبل تلك الفصائل المسلحة.
ففي ظل ندرة البلاغات عن انتهاكات حقوق الإنسان داخل منطقة عفرين، للمنظمات الحقوقية والجهات الدولية المعنية، بسبب الرقابة الشديدة من قبل فصائل الجيش الوطني، وتهديد ضحايا تلك الانتهاكات وذويهم بالانتقام في حال الإبلاغ عن تلك الجرائم والانتهاكات. إلا أن هناك بعض البلاغات عن انتهاكات وصلت لمسامع الرأي لعام، وضمنها حالات الاعتداء على المزارعين ونسائهم وحتى والأطفال والمسنين، ومنها أحداث أيلول/سبتمبر الماضي، التي وقعت في قرية كاخره/ ياخو، الواقعة على بعض 20 كم غرب عفرين، وهي أحد الأمثلة عن انتهاكات الجسيمة التي يواجهها أصحاب مزارع الزيتون وعائلاتهم.
ولأجل رصد وتوثيق تلك الانتهاكات في قرية كاخره/ياخو، أجرت منظمة إنسايت مقابلات مع أربعة أشخاص ينحدرون من القرية، نقلوا استغاثات أقاربهم الذين يعانون جرائم تلك الفصائل، بالإضافة للاستعانة بالمصادر المفتوحة. ومنها مصادر إعلامية وأخرى سياسية، ومن بينها مصادر مؤيدة للائتلاف السوري المعارض والجيش الوطني الذي تتبعه الجماعة المسلحة التي اعتدت على المزارعين وعائلاتهم في القرية.
وتضم قرية كاخره حالياً نحو 500 عائلة، أقل من 200 منها من السكان الأصليين، وهم أكراد تعاديهم تركيا، والبقية عائلات نازحة من مناطق سورية أخرى استقدمتها تركيا منذ العام 2018لتخفيف السكان من الشعب الأصلي الكردي، وغالبيت المهجرين عائلات لمسلحي الجيش الوطني.
في يوم الأحد 15 سبتمبر/أيلول الماضي، أقدم فصيل "سليمان شاه" المعروف باسم "العمشات"، وهو أحد فصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، على جمع رجال ونساء قرية كاخره/ باخور التابعة لناحية موباتا/ معبطلي في عفرين شمال غربي سوريا، لإجبارهم على الإسراع في دفع مبلغ 8 دولارات أمريكية عن كل شجرة يمتلكونها، أو تفويض الفصيل المسلح بإدارة الأراضي واستثمارها.
وانتشرت مقاطع صوتية منسوبة لمسلحي "العمشات" ومختار قرية كاخره، قبل منتصف سبتمبر/أيلول وبعده، وهم يفرضون مهل زمنية لا تتجاوز ساعات، للتوقيع على المبالغ المفروضة قسراً على كل عائلة، مع التهديد بمصادرة المزارع في حال عدم الدفع. وينقل أحد الشهود عن قريبه في القرية التي تبعد 28 كم غرب عفرين المدينة، إن عناصر الفصيل بدؤوا بتقدير الإتاوات المفروضة على كل عائلة والتوقيع على "تعهّد بدفع المبلغ". وتشمل الإتاوة الجديدة "كل شجرة" زيتون أو مثمرة أو غير مثمرة، وبغض النظر عن عمرها وبلوغها الإثمار أم لا، وتراوحت المبالغ التي قررها عناصر الفصيل ما بين 1000 و13000 دولار على العائلة الواحدة، إذ قرروا أن بعض العائلات تمتلك أكثر من 1600 شجرة في أراضيها، بحسب ما نقل الشاهد. ويضيف إن غالبية الأهالي رفضوا دفع هذه المبالغ، فرغم اعتيادهم على الإتاوات التي تفرضها فصائل "الجيش الوطني عليهم، لكنهم لا يستطيعون تأمين المبالغ الضخمة التي يطالب بها عناصر "العمشات".
وحين رفض المزارعون في قرية كاخره، التنازل عن الممتلكات بسبب العجز عن تسديد الإتاوات غير القانونية، تعرضوا لإعتداءات وتهديدات بالاعتقال التعسفي، ما دفع نساء القرية بالتوجه لنقطة أمنية للفصيل للاحتجاج، لكن المسلحين هاجموا النساء بالضرب بواسطة "العصي وخراطيم المياه"، بحسب الشهود. وبلغ عدد المصابين أكثر من 20 مصابة ومصاباً،غالبيتهم من النساء، بعضهم مسنات، وبين المصابين أطفال ورجال. ونقل أشخاصينحدرون من القرية ويعيشون خارج البلاد استغاثات العائلات التي فر غالبية أفرادها من الحرب وانتهاكات الفصائل.
فيما أفاد شاب آخر ينحدر من قرية كاخره، ويعيش الآن في مدينة حلب، لمنظمة إنسايت، إن عمته تعرضت لإصابات وكسور بسبب تعرضها للضرب على يد أفراد الفصيل المسلح، بينما تعرضت أخريات لإصابات بليغة بعد تعرضهنّ للضرب بالعصي والهراوات وخراطيم المياه. وأضاف أنه لا يستطيع تقديم أي معلومات دقيقة حول أعداد الضحايا، لأن أقاربه طلبوا منه عدم الاتصال بسبب خشيتهم من اقتحام منازلهم في أي لحظة.
عقب انتشار أخبار القرية على مواقع التواصل الاجتماعي، وصلت نحو 20 سيارة للشرطة العسكرية إلى القرية، وجمع مسؤول النقطة الأمنية لفصيل "العمشات" من لم يطله الاعتقال في القرية لفرض رواية أن ما حدث في القرية كان شجاراً بين عائلتين. وفي اليوم التالي، زار محمد الجاسم، قائد مسلحي سليمان شاه، القرية مع سيف أبو بكر، وهو قائد فرقة الحمزة الشريكة مع العمشات في تشكيل "القوة المشتركة"، ونشروا مقاطع مصوّرة تُظهر الأمر وكأنه مشكلة بين عائلتين كردية وعربية.
واستغل الفصيل مع الشرطة العسكرية نشر أنباء غير صحيحة على وسائل التواصل الاجتماعي عن مقتل نساء في القرية، أكّد ناشطون أن الأسماء لوفيات سابقة أو لأشخاص على قيد الحياة، روايتهم المختلقة عن شجار بين عائلتين والتي أحضروا من يشهد عليها من أهالي القرية (وهم أصلاً تحت التهديد). وكان صحفيون وناشطون من منطقة عفرين، قد حذّروا في اليوم الأول من تحايل الفصائل عبر نشر أخبار غير دقيقةعن الضحايا ثم تفنيدها،وذلك لإخفاء الانتهاكات الحقيقية. ونشر ناشطون مقطع فيديو قالوا إنه لتخريب في منزل مختار القرية أحمد قاسم، ونشرت مصادر إعلامية أنها حصلت على أسماء 20 مصاباً غالبيتهم من النساء.
ويقع المقر الرئيسي لفصيل العمشات في ناحية شيه/ شيخ الحديد، لكنها أنشأت نقاطها الأمنية في قرى ناحية معبطلي، إحداها في قرية كاخره، عقب تحالفها وفرقة الحمزة مع هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وانسحاب الفيلق الثالث (الجبهة الشامية وجيش الإسلام) في الاشتباكات إلى منطقة أعزاز.
وفي أغسطس/آب 2023، فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على مجموعتي "سليمان شاه" و"فرقة الحمزة" من الجيش الوطني السوري، وبعض قادتهما، بسبب ارتكابهما انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين في عفرين.
منذ الأيام الأولى لاجتياح تركيا والجيش الوطني منطقة عفرين 2018، تداولت المؤسسات الإعلامية والحقوقية أعمال النهب والمصادرة لممتلكات النازحين، التي حدثت بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع بغرض التهجير القسري، وأحداث تغير ديمغرافي للتركيبة السكانية في مناطق عفرين وتل الأبيض ورأس العين، بسبب العقيدة المتشددة لغالبية الفصائل، وتبنيها للسياسة التركية في العقاب الجماعي للسكان الأكراد في عفرين، مدعية أنهم داعمين لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، والتي تعتبره منظمة إرهابية.
وفي عفرين انتشرت عبارات على المنازل والمحال التجارية والمزارع تفيد بأن هذه الملكية أصبحت مصادرة لصالح أحد فصائل الجيش الوطني، ثم تقاسمت الفصائل قرى وبلدات عفرين فيما بينها، ورغم ذلك شهدت الأعوام السابقة خلافات بينها على الإتاوات وصلت حدّ الاشتباك المسلّح أحياناً.
وفي حالة قرية كاخره، احتجزت الفصائل حوالي 50 امرأة في المركز الأمني للفصيل، وهددوا بالاعتداء الجنسي عليهن، إذا لم يوافق الرجال على التوقيع على مبالغ الإتاوات المقررة على أشجارهم، والتنازل عن إدارة أشجار أقاربهم الذين نزحوا من القرية أو هاجروا من البلاد للفصيل.
يقول الباحث الاجتماعي، محمد زينو المنحدر من قرية كاخره ويعيش خارج البلاد، إن الفصيل ينوي جمع 640 ألف دولار أمريكي عن 80 ألف شجرة زيتون في قريته كاخره وحدها، ويصل المبلغ في عفرين عموماً إلى نصف مليار دولار بحسب الإعلامي روج موسى الذي ينحدر من عفرين ويعيش في ألمانيا.
ويجمع الشهود على أن الفصيل يعلم جيداً، أن تلك الإتاوات تعجيزية، لأن الغرض الرئيسى منها هو مصادرة تلك الأراضي والأشجار وبالتالي الاستيلاء على أرباح موسم الزيتون وهي المورد الرئيس لمعيشة الأهالي، لصالح تلك الفصائل.
وبعد حادثة كاخره، أبلغ فصيل سليمان شاه سكان القرى الأخرى التابعة لمعبطلي، من بينها قنتريه وشيتكا ورجا وجومزنا وعلي جاريه ومعصركه، بوجوب دفع مبلغ 8 دولارات عن كل شجرة، أو توكيل الفصيل بإدارة الأراضي، كما قام فصيل فرقة الحمزة بالخطوات نفسها في قرى ناحية راجو شمال منطقة عفرين.
ويستمر فصيل "سليمان شاه" والفصائل الأخرى التابعة للجيش الوطني الموالي لتركيا، في عفرين وريفها، في فرض مبالغ مالية متتالية بحسب عدد الأشجار، ثم بحسب كمية الإنتاج، وأثناء شحن الزيتون إلى المعاصر، وبعدها على معاصر الزيت، ثم خلال التسويق والنقل والبيع.
وفي 17 سبتمبر/أيلول، أجبر عناصر الفصيل الإقتصادية، العديد من المزراعين وخاصة عدد كبير من نساء القرية على التوقيع على "أوراق بيضاء" تتيح للفصيل الحصول على تفويض بإدارة أراضيهم وأراضي أقاربهم المهجرين، أو جباية المبالغ التي يحددها عن كل حقل. فكلاً من قوات العمشات والحمزات والفصائل الأخرى، أنشأت "المكتب الاقتصادي للفصيل" الذي يجمع المبالغ التي يجمعها من خلال الانتهاكات بعد اتهام السكان بالتعامل مع الإدارة الذاتية السابقة في عفرين، أو انتماء أقاربهم وأصحاب ملكيات الأراضي لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD).
والجدير بالذكر أن السلطات التركية تدير المنطقة بإشراف مباشر من خلال والي هاتاي أو الاستخبارات التركية، أو بشكل غير مباشر بواسطة الشرطة العسكرية وفصائل الجيش الوطني.
عقب إعتداء فصيل سليمان شاه الاعتداء على النساء والمزراعين احتاجاجا على فرض تلك الإتاوات، فرضت حصار جماعي وحظر تجوال على القرية، واعتقلت العديد من الشباب الكورد في القرية، وقطعت وسائل الاتصال والانترنت، لاعتراضهم على دفع الضرائب المفروضة على الزيتون والبيوت.
وأثناء الاعتداء على سكان قرية كاخره يوم 15 سبتمبر، منع فصيل "العمشات" إسعاف المصابين للمشافي بعد محاصرته القرية وقطع الإنترنت عنها. ومع عودة الإنترنت، في الأيام التالية، نشر ناشطون صوراً لبعض النسوة ضحايا هجوم عناصر "العمشات" وأسماءهن، وسط تحفّظ غالبية الضحايا عن الإعلان عما تعرضوا له بسبب الخشية من أعمال انتقامية.
ووسط عدم تمكن الناشطين والإعلاميين من الوصول للقرية، وتهديد مسلحي فصيل "سليمان شاه" السكان بتسريب معلومات عمّا يجري، يصعب التحقق من حجم المخاطر التي تهدد سكان كاخره والقرى الأخرى في المنطقة، حيث يمنع المسلحين الدخول إلى مناطق سيطرته، باستثناء حالات قليلة تحت رقابة مشددة، بما فيهم قادة وأعضاء الائتلاف الوطني الذي يحضر ممثل الفصيل اجتماعاته. حتى ةأن رئيس الائتلاف السوري، هادي البحرة،لم يزر قرية كاخره خلال الجولة التي قام بها شملت جنديرس القريبة، رغم إعلان أن تلك الزيارة للاستماع لاحتياجات السكان والمصاعب التي يواجهونها.
وتعتبر المنظمات الحقوقية والمدنية شمال وشرق سوريا أن المجتمع الدولي لا يكترث بالاستغاثات والتقارير المتكررة من عفرين منذ سيطرة تركيا مع الجيش الوطني الموالي لها عليها قبل أكثر من ستة أعوام، ما يسهّل الإفلات من العقاب وتكرر الجرائم خاصة بحق السكان الأكراد، في التهجير القسري، والحرمان من الوصول إلى الغذاء الكافي، والمياه الصالحة للشرب، والمواد الطبية. وأن الحكومة التركية وتلك الفصائل التي تدعمها، تتحمل مسؤولية تلك الممارسات التي ترقى إلى جرائم حرب، وانتهاك لالتزماتها لاتفاقية القضاء على كافة أشكال التميز العنصري، ، وينتهك حظر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حرمان شعب من وسائل معيشته، فضلاً عن قواعد القانون الدولي الإنساني أخرى.
— *** —
الصورة على الصفحة الأولى: سكان عفرين المحليون يتظاهرون ضد تدمير الميليشيات المدعومة من تركيا لمساكنهم. المصدر: نورث برس. الصورة على هذه الصفحة: خريطة الوضع العسكري في سوريا اعتبارًا من تشؤين الأول/أكتوبر 2024. المصدر: ويكيبيديا. انظر الخريطة التفصيلية هنا.
تحميل الملف