السدود الكبرى وانتهاك حقوق الشعوب فى السيادة على الغذاء “سد النهضة نموذجا”

تتزايد عاما بعد عام حركة بناء السدود عالميًا والتى بلغت ما يقرب من 800 ألف سد من بينها 58 ألف سد من السدود الكبرى، وما تتسم به السدود الكبرى كونها تتمتع بمواصفات خاصة من بينها فى ارتفاع جدارها بما يصل إلى 90 مترا.[1] وهناك العديد من الأمثلة فى منطقتنا على تزايد حركة بناء السدود الكبرى لعل من بينها السدود التركية على نهري دجلة والفرات كسد “أتاتورك” الذي تم بناؤه على مجرى نهر الفرات وبسعة تخزينية بلغت 48 مليار متر مكعب، وكذلك سد “إليسو” المقام على نهر دجلة وبسعة تخزينية 10.4 مليار متر مكعب، الأمر الذي كان له العديد من الآثار شديدة الوطأة على حق الناس فى الوصول للمياه اللازمة للشرب وأيضا لإنتاج الغذاء في سوريا والعراق باعتبارهما دولتا مصب، حتى أن البعض صار بمقدوره عبور النهر مشيا على قدميه بعد أن قامت تركيا منفردة بملء بحيرة سد”إليسو” على نهر دجله وذلك فى شهر يونيو من 2018 .نفس المشهد تكرر في الصومال مع قيام إثيوبيا ببناء سد ”ميلكا واكانا“ على نهر شبيلي الذي ينبع من إثيوبيا ويمر بالصومال. حيث جفت ينابيع النهر، وهجر السكان مصدر رزقهم مع بناء السد.


وهو ما تكرر أيضا فى كينيا مع قيام إثيوبيا ببناء سد “جليجب” على نهر “أومو”، وهو ما كان له أثرًا بالغًا على نزوح السكان بعيدًا عن النهر بعد جفاف بحيرة “توركانا”، مصدر رزقهم وإحدى أهم البحيرات الصحراوية في العالم. حيث أدى بناء السد إلى تدميرها بيئيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. نفس الأمر يتكرر مع قيام الحكومة الإثيوبية ببناء سد النهضة على روافد النيل الأزرق الذي يغذي مصر والسودان بـــ85 % من المياه، والذي يعد شريان الحياة لكلا البلدين مصر والسودان باعتبارهما دولتا ممر و مصب.

ولن تتوقف حركة بناء السدود الإثيوبية عند سد النهضة فقط بل ستمتد إلى بناء عشرات من السدود الأخرى على طول منابع نهر النيل حيث تجدر الإشارة إلى ما صرح به “أبي أحمد” رئيس الوزراء الإثيوبي من اعتزام إثيوبيا بناء مائة سد خلال الأعوام القادمة وربط عدد من تلك السدود بسد النهضة، الأمر الذي سيفرض الكثير من الآثار والتداعيات على مصر والسودان يكفي أن نشير أن مصدر المياه الوحيد لمصر هو نهر النيل الذى يغذي 97% من الأحتياجات المائية لمصر، فى حين أن التساقطات المطرية ومنابع المياه الجوفية لا تغطي سوى 3% فقط من موارد مصر المائية .وعلى الرغم من الآثار السلبية المباشرة لبناء السدود وبخاصة الكبيرة منها، وتلك التى تُبنى على منابع الأنهار، إلا إنه يصاحب بناء هذه السدود الترويج لسردية تدافع عن بناءها، تقودها مؤسسات التمويل الدولية من البنك الدولي، إلى بنك الاستثمار الأوربي، بنك التنمية وإعادة الإعمار الأوربي، بنك التنمية الإفريقي، وبنك التنمية الإسلامي …إلخ.

ومن يسير في ركابهم من شركات عابرة للقوميات تعمل بالإتجار في المياه عبر العالم مثال شركات Veolia Environment وSuez Environment الفرنسيتين، وأيضًا ITT Corporation الأمريكية ..إلخ .وتدافع هذه المؤسسات الدولية عن بناء السدود بدعوى أن هناك تفاوتًا في الوصول إلى المياه عبر دول العالم. ما بين دول تتسم بوفرة مائية، وأخرى تعاني قلة الماء. ومن ثم فإن بناء السدود يمكنه أن يقلل من حدة التفاوت في الوصول إلى المياه، سواء على مستوى البلد الواحد أو البلدان والأقطار المختلفة. على الجانب الآخر يطرح هذا الخطاب العديد من التساؤلات حول بناء تلك السدود. أولى هذه التساؤلات هو الكيفية التي يمكن بها الإقلال من التفاوت في الوصول للمياه بين الأقطار المختلفة؟ أمن خلال خلق سوق دولية للتجارة في المياه؟ بمعنى الدفاع عن حق الدول ذات الوفرة المائية في بيع حصص مائية للبلدان ذات الندرة المائية. سواء عبر بورصات دولية، أم عبر التعاون والانتفاع المشترك، داخل حدود الدولة الواحدة، أو بين الدول المتشاطئة في نهر دولى؟ أو بين البلدان التى لا يجمعها نهر مشترك؟ تظل هذه الأسئلة معلقة لا تجد لها إجابات في سرديات بناء السدود التي تروج لها مؤسسات التمويل.

إلى ذلك لا يتوقف بناء السدود عند حدود تجميع وتخزين المياه وإعادة توزيعها وفقًا لمقتضيات العدالة المائية، أو وفقًا لمقتضيات السوق، بل يمتد الأمر إلى خلق أسواق أخرى تتعلق بإنتاج الطاقة الكهرومائية، وإعادة توزيعها والإتجار بها سواء داخل بلد منشأ السد أو عبر الأقطار والبلدان المختلفة.


الأمر الذى يشير إلى أن بناء السدود الكبرى، وبخاصة على منابع الأنهار، يشجع على زيادة احتكار الموارد الطبيعية من مياه وطاقه كهرومائية، والدفع بها نحو أسواق التجارة الدولية. مع ما يترتب على ذلك من نزاعات اقتصادية وسياسية، قد تتطور إلى نزاعات عسكرية بسبب اندفاع مؤسسات التمويل الدولية والشركات عابرة القوميات إلى انتزاع الأرباح الناجمة عن تسليع وتتجير الموارد الطبيعية، ونقل تلك الموارد من الملك العام والإرث المشترك إلى الهيمنة والاحتكار.

ولعل التزايد المضطرد فى حركة بناء السدود،، يدخل ضمن إطار فرض الهيمنة على الموارد الطبيعية وإعادة توزيعها بهدف جني المزيد من الأرباح، وبخاصة فى ظل اتجاه معدلات الأرباح فى القطاعات الاقتصادية الأخرى إلى الانخفاض على الصعيد العالمي.
ولا تتوقف أثار بناء السدود عند حدود احتكار الموارد الطبيعية وإحكام السيطرة عليها، بل تتجاوزها إلى الإخلال بمناخ الأرض والتوازن الإيكولوجى للكوكب. وذلك على خلاف ما يُشاع من أن السدود طاقة خضراء، وأن بناءها وسيلة لمكافحة الاحتباس الحراري العالمي.

فبناء السدود يؤدي إلى زيادة حقيقية في الغازات الدفيئة. وتكفي الإشارة إلى ما يسببه إنشاء وتشغيل السدود الكبيرة من انبعاث الغازات الدفيئة، وبخاصة غاز ثانى أكسيد الكربون و غاز الميثان. وقد أكد العديد من الخبراء أنه، وبشكل عام، كلما ارتفع عمق السد كلما كانت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مرتفعة، وكلما ارتفعت درجة حرارة المياه كلما ارتفعت نسبة الغازات الدفيئة الناجمة عن النشاط البيولوجي في السد.[2]


أيضا تحول السدود الكبرى حركة السريان الطبيعي لمجاري الأنهار وما يخلفه ذلك من حجز الرسوبيات وما تحمله من طمي ومعادن قادرة على تجديد حصوبة الأراضي الزراعية وزيادة إنتاجيتها ومن ثم المساهمة فى الحد من مشكلات الجوع والفجوة العذائية .علاوة على ذلك تتسم حركة بناء السدود الممولة من مؤسسات التمويل الدولية بانعدام الشفافية، وغياب مشاركة المجتمعات المتأثرة ببناء هذه السدود. وبخاصة ما يتعلق بدراسات تقييم الأثر البيئي، سواء قبل أو أثناء أو بعد بناء تلك السدود. وتكفي الإشارة إلى عمليات نزوح ملايين السكان، على الصعيد العالمي، من جراء بناء تلك السدود.

سد النهضة وتساؤلات الهيمنة على المياه والموارد الطبيعية

هناك العديد من التساؤلات التى تثار بشأن سد النهضة بداية من جغرافيا إنشائه، حيث أقيم على الحدود السودانية الإثيوبية وبالتحديد على أرض “بنى شنقول” وهى أراضي سودانية كانت بريطانيا – التى كانت آنذاك محتلة لمصر والسودان- بمنحها للحكومة الإثوبية فى إطار اتفاقية 1902 التي وقعتها سلطة الاحتلال البريطاني نيابة عن مصر والسودان مع ملك إثيوبيا التى كانت تتمتع بالاستقلال، فى مقابل عدم قيام إثيوبيا ببناء أي سدود أو منشآت تحول دون جريان النهر لدولتي الممر والمصب وهما السودان ومصر. وبدلا من قيام الحكومة الإثيوبية ببناء السد داخل الأراضي الإثيوبية بمسافة تبعد ما يقرب من 60 كيلو متر عن الحدود السودانية كما كان مقررا، تم الرجوع عن هذا المخطط وبناء السد على أراضي بنى شتقول السودانية، الأمر الذي يطرح المزيد من المخاوف والآثار الكارثية حال حدوث أي خلل فني أو حتى طبيعي فيما يتعلق بالسد ـ الذي قد ينجم عنه من غرق السودان ومصر ودمار كبير بالأراضى الزراعية.

التساؤل الثاني يتعلق بالسعة التخزينية لسد النهضة حيث كان من المقرر وفقا للدراسات الأولية لبناء السد أن تكون السعة التخزينية لبحيرة السد 11.1 مليار متر مكعب وهى السعة التخزينية المطلوبة لإنتاج الطاقة الكهربائية المطلوبة لإثيوبيا، ولكن تغيرت السعة التخزينية إلى 74 مليار متر مكعب الأمر الذي يشير إلى أن الهدف من تلك الزيادة ليس فقط لتوليد الطاقة بل إلى خلق خزان مائي ضخم وحجز المياه لصالح إعادة توزيعها وبيعها فىي الأسواق الدولية وخلق واقع جديد تسعى إليه مؤسسات التمويل الدولية والشركات عابرة القوميات يتمثل في خلق بورصات للتداول في بيع وشراء المياه ومن ثم الخروج بالموارد المائية والطبيعية من الإرث والملك المشترك إلى الملك الخاص، والمزيد من فرض آليات الهيمنة على الموارد المائية والطبيعية، ولعل نهر النيل هو بمثابة النموذج الإرشادي الذي يتم خلقه لإثبات وفرض آليات الهيمنة على المياه والموارد الطبعيبة.

التساؤل الثالث يتعلق بالإرث الإنساني المشترك المتعلق بحقوق الدول المشاطئة فى مجاري المياه الدولية، حيث إنه وبموجب اتفاق المبادئ الذي جرى توقيعه عام 2015 والذي أعطى الحق لإثيوبيا فى البناء والملء الأول لخزان السد بشكل منفرد، وحتى الآن لم يتم التوصل لاتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاثة فى الإدارة التشاركية للسد وفقا للاتفاقية الأممية المتعلقة باتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية والذي يتضمن التوزيع العادل والمنصف للحقوق المائية للأنهار الدولية المتشاطئة ولكن إزاء إصرار إثيوبيا باعتبار نهر النيل بحيرة إثيوبية دفع مصر ممثلة فىي وزير خارجيتها بالتقدم بشكوى لمجلس الأمن يوم 12 يونيو 2021 تطلب تدخله بعد فشل كل الجولات التفاوضية على مدار سنوات للوصول لاتفاق قانوني ملزم يضمن حقوق جميع الأطراف.

التساؤل الرابع المتعلق بسنوات ملء خزان السد البالغ 74 مليار مكعب، وتداعيات ذلك على حقوق الناس فى الوصول للمياه اللازمة للشرب ولإنتاج الغذاء حيث إن أى خفض فى حصص مصر والسودان سيكون له تأثيرات سلبية بالغة سواء على شبكات مياه الشرب في مصر والسودان حيث أن خفض مناسيب المياه عما هو قائم سيؤدى إلى توقف شبكات مياه الشرب والعمل على تعديل للشبكة القائمة بما يتوافق مع الخفض في مناسيب المياه، إضافة إلى الآثار السلبية على بيئة الأراضي الزراعية وبخاصة مصر التى تعاني ندرة شديدة في الأراضي الزراعية التي تبلغ أقل من أربعة ملايين هكتار يتوجب أن توفر الغذاء اللازم لأكثر من مائة مليون نسمة. حيث إن خفض مليار متر مكعب واحد من حصة مصر البالغة 55.5 مليار متر مكعب يعني خفض في المساحة الزراعية ما يعادل 80 ألف هكتار، ومع اكتمال بناء السد يتوقع أن تنخفض حصص مصر على سبيل المثال إلى 35 مليار متر مكعب وفقا لسيناريو عدم التوافق على اتفاق يضمن الحقوق القائمة لمصر والسودان، وفي إطار هذا السيناريو يمكن لمصر أن تفقد ما يعادل 1.2 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، إضافة للآثار البيئية السلبية التى سوف تؤدئ إلى تدهور تربة الأراضي الزراعية، وإنعكاس ذلك على تعميق الفجوة العذائية فى كلا من مصر والسودان.

.كثيرة هي الآثار السلبية ولا نغالي إن قلنا المدمرة من جراء بناء السد النهضة الناجمة عن زيادة سعته التخزينية إلى 74 مليار متر مكعب بدلًا من 11.1 مليار متر مكعب مما يجعله اشبه بالقنبلة المائية التي تجرف في طريقها كل الإرث الإنساني من التنوع الإيكولوجي، ناهيك عن جفاف موراد الرزق لملايين الناس الذين عاشوا ويعيشون على ضفاف نهر النيل والذي يعد مصدر غذائهم ومعيشتهم وحتى أغانيههم وأهازيجهم، إن تلك السدود الكبرى وبخاصة تلك التى على منابع الأنهار هي أدوات فى تعميق اللامساواة بين الناس على ضفاف الأنهار لصالح آليات من الهمينة وجني المزيد من الأرباح لصالح مؤسسات التمويل والشركات الكبرى في مقابل المزيد من التجويع الإفقار للشعوب التي تحيا على هذه الأنهار الدولية. هذا هو الدرس الذي يجب استخلاصه من بناء سد النهضة وغيره من السدود الكبرى وبخاصة تلك التى على منابع الأنهار ولنا فيما حدث بالصومال وكينيا والهيمنة التركية على منابع نهري دجلة والفرات خير شاهد ودليل، وإن ما يلوكه بعض الباحثين حول الجوانب الفنية المتعلقة بسنوات الملء الخاص ببحيرة سد النهضة وهو على أهميته يتنافى مع واقع واستتراتيجية بناء السدود الكبرى التي تروج لها مؤسسات التمويل الدولية والشركات العابرة القوميات والمتمثله في خلق أسواق دولية للتجارة في الموارد الطبيعية.

المراجع:

https://www.icold-cigb.org/article/GB/world_register/general_synthesis/general-synthesis[1]

[2] Émissions de gaz à effet de serre : certains barrages sont pires que des centrales à charbon ! Deluzarche C.2019.https://www.futura-sciences.com/planete/actualites/rechauffement-emissions-gaz-effet-serre-certains-barrages-sont-pires-centrales-charbon-64636/

الصورة: سد إليسو المثير للجدل، وهو جزء من مشروع جنوب شرق الأناضول، بدأ بالملء في يوليو 2019. المصدر: المديرية التركية للأعمال الهيدروليكية.

ثيمات
• إدارة مشروعات
• إقليمي
• الأبحاث
• الإخلاء القسري
• الاتصالات والنشر
• البيئة المستدامة
• التشريد
• الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
• الحوادث
• الرعاة
• السياسات العامة
• الشعوب الأصلية
• الغذاء ( الحق، السيادة، الأزمة)
• الفلاحين
• المعدمين
• الموازنات والبرامج العامة
• المياه والصرف الصحي
• الميراث الثقافي
• النازحين
• النزاع المسلح/ العرقي
• الوصول إلى الموارد الطبيعية
• تغير المناخ
• حقوق الأرض
• حقوق الإنسان
• دولي
• نزع المكلية